أكرمنا الله بالإيمان ، وأعزنا بالإسلام ، خلقنا بقدرته، ورزقنا من نعمته، ووفقنا بهدايته، قلبونا موصولة برجائه، ونفوسنا معلقة بعطائه، وآمالنا في رحمته، وطموحنا إلى جنته، توكُلُنا عليه، وإنابتنا إليه، فنحن لله وبالله وعلى الله.
فإذا عظُم الخطب ، واشتد الكرب فلا نجاة منه إلا بعون من الله - سبحانه وتعالى - :{ ولقد نادنا نوح فلنعم المجيبون } ، {ولقد مننا على موسى وهارون * ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم }.
وإذا أحدق الشر وتضاعف الضر فلا كاشف له إلا الله ، { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلاً ما تذكرون } { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير * وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير } ..
إذا توالى الهم ، وتتابع الغم ، فلا فارج له إلا الله .. { وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له وكشفنا ما به من غم وكذلك نُنجي المؤمنين } .
وإذا جاءت النقمة ، أو حلت الفتنة فلا صارف لها إلا الله .. { فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم }
كلما تفاقم الضرر واقترب الخطر ، فلا ملجأ من الله إلا إليه.. { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } .
الصلة بالله - سبحانه وتعالى - تعلقاً به ، ويقيناً بموعوده ، وأملاً في نصره ، ورضىً بقضائه ، ومحبة في ثوابه ، وخوفاً من عقابه ، وتوكلاً على قوته .. ذلك هو المعوّل عليه في كل خطب ، وهو الموثوق به بإذن الله - عز وجل - في كل كرب ..
تضرَّع إلى الله ، واستمسك بمنهج الله ، وأدم ومناجاة ودعاء لله .. { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } .
فالحق - سبحانه وتعالى - ينادينا { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } .
ويخبرنا جل وعلا بتحقق المراد ، إذا تم اللجوء إليه والتضرع والتذلل بين يديه :
{ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم ... } .
يأتي المدد من الله ، ويتنزل النصر من عند الله ، ويكون التثبيت من الله سكينة في النفوس ، ويكون اليقين صارفاً للخوف والجزع .. اليقين بالله - سبحانه وتعالى - وليس شيء غير ذلك ، لا التجاء إلى أسباب الكثرة العددية ، ولا إلى وفرة القوة المادية ، ولا إلى الاستعدادات العسكرية ، إنما اللجوء إلى رب البرية - سبحانه وتعالى - .
كل شيء يستند فيه إلى غير الله ؛ فإنه إلى ضياع وخراب ، وكل اعتماد وتوكل على غير الله ؛ فإنه إلى خسار وانهيار ، وإن المرء المؤمن لَيرى ويقرأ ويعتقد ويوقن ، وهو يتلو آيات القرآن ، أن ذلك حق لا مرية فيه ، ولكن تعلق القلوب بالدنيا الزائلة ، ربما ينال من ذلك كله ، والله - جل وعلا - قد بيّن لنا أن الالتجاء إلى غيره أمر لا تحمد عقباه ، فقال – سبحانه وتعالى - : { أليس الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه } .
مهما اجتمعوا ، ومهما كثروا ، ومهما عظموا ، ومهما انتفخوا .. كلهم من دون الله في صيغة موجزة ، تدل على الاحتقار لهم ، وبيان ضعفهم ، وزرع اليقين بفشل كيدهم وذهاب ريحهم ، لأن الله - سبحانه وتعالى - قدّم بذلك بقوله : { أليس الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه } .. { ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام} ، { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمته هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون * قل يا قومي اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم } .
هل بعد هذا الوضوح في الآيات من وضوح في التفريق بين من يلجؤون إلى من دون الله أو يعتمدون عليه ، أو يظنون أنهم يقدرون على تحقيق ما يصبون إليه بمساعدتهم، وبين من يلجأ إلى الله - عز وجل - ، وهو كافٍ عباده ، وهو حسبهم – سبحانه - ، وهو وكيلهم - جل وعلا - .
كان النبي - صلى الله عليه وسلم- صادق الاعتماد والتوكل على الله أرأيته وهو قافل من الطائف بعد أن لقي ما لقي من الأذى؟ ما الذي صنعه ؟ إلى من توجه ليذهب عنه حزنه ؟ أليس قد لجأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله - عز وجل - وهو يناديه في تضرع خاشع : ( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي ... ) فينزاح الهم والكرب ، ويزول الحزن ، ويقوى اليقين ، ويعظم الإيمان ، وتنقشع الغمة ، وتعلو الهمة .
ويوم واجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أضعاف من معه من المؤمنين في جيش قريش ،في يوم بدر توجه - عليه الصلاة والسلام - إلى الله - جل وعلا - : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ،اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض.. ) فما زال يهتف بربه ماداً يديه ، مستقبلاً القبلة حتى سقط رداءه من منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه ، فقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك .
في أحرج موقف ، وعند التقاء الصفوف وتكاثر الأعداء ، يستعين النبي - صلى الله عليه وسلم - برب الأرض والسماء .
أما رأيناه في الأحزاب { إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } [ الأحزاب : 10 ] في هذا الموقف كبّر النبي - صلى الله عليه وسلم – وبشّر بفتح قصور كسرى وقيصر وكانت النتيجة ؟ { فرد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خير وكفى الله المؤمنون القتال }.
ويوم توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر لقتال فلول اليهود المتجمعة فيها ، استعان بقوة الله ، وقال وهو مقبل على ديارهم ..( الله أكبر .. الله أكبر ، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ) .
هكذا يكون دائماً صادق الالتجاء إلى الله ، يواجه كل خطب بالاستعانة بالله ، فينتصر بإذن الله - سبحانه وتعالى - فالصبر زاد المؤمنين ، والنصر عقبى الصابرين ، والقادر الجبار نعم العون إن عز المعين.
لابد من أوبة صادقة ، وإنابة مخلصة ، والتجاء حقيقي حار مخلص لله - سبحانه وتعالى - ،: { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } فلنعد إلى الله ونتخلى عن كل ما سواه { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد } .
ولقد كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم – يعلمنا صدق اللجوء إلى الله ففي الصحيحين من حديث ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكرب : ( لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ) .
وفي حديث أسماء بنت عميس عند أبي داود بسند حسن ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاطبها فقال : ألا أعلمكِ كلمات تقوليهن عند الكرب ! قالت : بلى يا رسول الله ، فقال لها : قولي (الله ربي ولا أشرك به شيئا) .
فالله هو الذي بيده كل شيء ، وهو التي تنفذ مشيئته في كل شيء ، وهو الذي تنتصر قدرته على كل شيء - سبحانه وتعالى - ، ولذلك ينبغي لنا أن نحرر هذا الأمر في واقع حياتنا بصدق اليقين بالله - سبحانه وتعالى - وأن الأمر كله بيد الله ، و أن النصر من عند الله ، وأن القوة كلها لله ، وأن العزة كلها لله .
لقد لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المعاني لان عباس حين قال له وهو رديفه : ( يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ... تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ) .
وكما بيّن - عليه الصلاة والسلام - في رواية أخرى لهذا الحديث : ( وأعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ) .
من كان هذا يقينه ، فأي شيء يرهبه ؟ ومن كان هذا إيمانه ، فأي شيء يخيفه ؟
قالثبات لا يتحقق ، والشجاعة لا تظهر ، والحمية الإيمانية لا تتوقد ، إلا إذا ملأ الإيمان القلب وانسكب اليقين في النفس وكان الرضا بقضاء الله وقدره والإيمان به عظيماً قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في بيان ذلك : " الذي يحسم مادة الخوف هو التسليم لله ، فمن سلّم لله واستسلم له ، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له ، لم يبقى لخوف المخلوقين في قلبه موضع ؛ فإن نفسه التي يخاف عليها سلّمها إلى وليّها ومولاها ، وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها ، وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها ، فلا معنى للخوف من غير الله بوجه " .
وفي التسليم أيضاً لطيفة أخرى ، وهي أنه إذا سلّم لله فقد أودع نفسه عنده وأحرزها في حرزه ، وجعلها تحت كنفه لا تنالها يد عدو عاد ، ولا بغي باغٍ عاتٍ ، وكما قال الشجاع علي رضي الله عنه :
أي يومي من الموت أفر **** يوم لا يقدر أو يوم قـــــدر
يوم لا يقدر لا أرهبــــه **** ومن المقدور لا يندي الحذر
وكما كان شيخ الإسلام ابن تيميه يقول في مواجهة ما أحاط به من الخطوب وفي موقفه إزاء ما حل به من الكروب : " ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أينما رحلت فهي معي .. أنا حبسي خلوة ، وقتلي شهادة ، وخروجي من بلدي سياحة " .
وهاهم إخواننا في فلسطين عندما يئسوا من قوة الناس وإعانة الخلق ، ولم يلتجئوا إلا إلى الله - سبحانه وتعالى - استطاعوا أن يثبتوا على مدى تلك الأعوام المتعاقبة ، رغم كل البغي والظلم والعدوان ، وتغيير الموازيين ، وانتكاس العدالة ، وجور المحاكمة ، ورغم قوة البطش الصهيونية الغاشمة الظالمة ، نرى ثباتاً عظيماً في صفوف المؤمنين ، وهلعاً ظاهراً وجبناً بيّناً ، وخوفاً مريعاً في صفوف المعتدين ، خوف ممن .
من شباب وأطفال صغار لا يملكون سلاحاً سوى الأحجار ، ولا يجدون شيئاً يواجهون به أعدائهم إلا قوة الواحد القهار - سبحانه وتعالى - .
ولذلك من استمسك بإسلامه ويقينه ؛ فإنه قوي وإن لم يكن لديه سلاح - كما ترجم - ذلك إخواننا وأطفالنا في الأرض المباركة
وهذا شاهد من شواهد صدق ما أخبرت به من أثر اليقين بالله - عز وجل - ، وصدق الالتجاء إلى الله . يدعونا لأن نؤكده لأنفسنا من واقعنا المعاصر فضلاً عن تاريخنا الماضي ، فضلاً عن ما بين أيدينا من آيات القرآن والسنة أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع اليقين ، وأن القوة مع الإيمان وأن العزة مع الإسلام . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.